- ِنساء في زمن الثورة
(1) --- المقدمة،
لالة ولت محمد أغ برغالي،
منذ العصور القديمة وحتى قبل وصول الإسلام إلى شمال أفريقيا وانتشاره بين السكان الأصليين، سمعنا عن قصص لنساء كثيرات ارتقين إلى أعلى المناصب في المجتمع الصنهاجي القديم. ومع دخول الإسلام إلى شمال أفريقيا واعتناق المجتمع الصنهاجي له بعد كر وفر، لم يختلف الأمر كثيرا عما سبق بنسبة لدورالمرأة الريادي،
فظلت المرأة الصنهاجية تحافظ على شخصيتها المتمردة على الظلم والطغيان، تحافظ على دورها المتميز ومكانتها الاجتماعية المرموقة والمؤثرة في المجتمع،،،
فقد كانت المرأة الصنهاجية ولا زالت تلازم أخاها الرجل في كافة ميادين الحياة، ولم يقتصر دورها على الإنجاب و استمتاع الرجل بجسدها الناعم فحسب، والمتتبع لتاريخ المرأة في المجتمع الصنهاجي القديم والحديث يجدها قد فرضت نفسها على المجتمع. فأصبحت رائدة في كافة المجالات الحياتية والتي تسمح لها طبيعتها الأنثوية الرقيقة أن تتقلدها. هنا حتى لا يقال أننا نسبح في الهواء،
علينا أن لا ننسى أن المجتمع الصنهاجي كأي مجتمع قبلي بدوي يعيش في بيئة صحراوية قاسية وقاحلة يعتمد فيها الإنسان في الأساس على مفهوم البقاء والذي يستند على مفهوم البقاء للأقوى،
والقوة هنا ليست قوة العقل والفكر والحجة والتي قد تتفوق فيها المرأة على الرجل،في حال ما توفرت لها الإمكانيات اللازمة لإظهار قدراتها العقلية والذهنية،
إنما قوة الجسد وصلابة العضلات التي يتفوق فيها الرجل على المرأة بالفطرة ،
وهذا ما يجعل المرأة الصنهاجية تتنحى جانبا وتفسح المجال أمام أخيها الرجل في بعض المجالات الحياتية التي تتطلب منها الجهد والقوة العضلية،
ورغم كل تلك التعقيدات الكثيرة والمتشعبة التي ذكرنا منها القليل وتركنا منها الكثير تجنبا لسخط رجال الحسبة حراس الفضيلة وما أكثرهم في مجتمعنا،
فنحن من أكثر المجتمعات تدينا، والتي تقف في وجه المرأة وتمنعها من تحقيق أحلامها وتطلعاتها إلا بما يسمح له الشرع والعقيدة وليس ما تسمح به العادات والتقاليد في المجتمع،
وقد سمعنا عن الكثير من قصص النساء التي نقلتها إلينا الأفواه في الماضي القريب، تتحدث عن نساء قاتلن لحماية أبنائهن من الأسر. قاتلن من أجل الحفاظ على شرفهن من الهتك في أيام غزوات( الفلاقة والساحل)الذين غزوا منطقة الصحراء الكبرى ولم يتركوا فيها جريمة دنيئة إلا ارتكبوها في حق الأبرياء العزل من أبناء الصحراء،
والمرأة التي نسعى أن نتناول فصول قصتها هي سليلة لتلك النساء اللاتي تشرفنا بهن،
2_ لالة نضال منذ الطفولة
المناضلة/ لالة ولت محمد أغ برغالي،المعروفة في الوسط الاجتماعي باسم (لالة غرداية)
ككل أبناء جيلها من أطفال شعبها الأزوادي الذين لم تخل حياتهم من اليتم والبؤس والحرمان،
خرجت إلى الدنيا الطفلة ( لالة) الرقيقة المحبة للحياة عام 1966 ميلادي في منطقة (أغاروس-- آنو ملن) في أقصى شمال أزواد، من أبوين هما الأب (محمد أغ برغالي) والأم ((لش زومقاني--- وهي عمة الشهيد/ محمد ميداوي زومقاني الذي أستشهد في كيدال إثر تفجير إرهابي عام 2013))
بالإضافة إلى تسعة أخوة بنتين وسبعة أولاد،
لكن ككل شيء ثمين وجميل في حياتها وحياة أبناء شعبها كتب لهم أن لا يدوم عليهم طويلا، اجتاح طاعون قاتل مجهول المنطقة لم يعرف له مثيل ولا دواء له بين أطباء الأعشاب والعرافين وقبل أن يرحل هذا الطاعون المجهول خلف وراءه مقابر جماعية وتشوهات خلقية عند الأطفال حديثي الولادة، وجفاف وتصحر عانت منه الصحراء وأمراض لم تستثني الإنسان عن الحيوان لدرجة أن الرجل الذي كان يمتلك مئات من رؤوس الماشية من الأبقار والإبل والنعاج والماعز أصبح بين ليلة وضحاها يبحث عمن يتبرع له برأس من الماشية،
لم يعد البقاء في الوادي الذي كان قبل الطاعون ينبض بالحياة أمرا حكيما، فرائحة الموت وجيف الحيوان تشم رائحتها على بعد آلاف الأميال، لم يعرف سبب الطاعون لكن كل المؤشرات والدلائل تشير إلى ارتباط هذا الطاعون القاتل الذي اجتاح منطقة الصحراء الكبرى عموما بشكل وثيق بالتجارب النووية والكيمائية التي أجرتها الدولة التي كانت المنطقة حينها ولا زالت تحت سيطرتها (فرنسا) وماتستند عليه هذه الفرضية هو تطابق الزمن بين الحادثتين،
وفرنسا قد بدأت في تجاربها النووية بداية من الأعوام 1954-1962- 1966 وهو العام الذي صادف ولادة المناضلة/ لالة ولت محمد،
لم يرحل الطاعون هكذا كما جاء مستسلما فأصرأن يرافقه في رحلته إخوتها التسعة كما رافقه أيضا المئات بل الآلاف من أبناء شعبها في رحلة أزلية لم يرى العائدين منها،
إن أبناء هذا الشعب مثلما هم متشابهون في الحياة هم أيضا متشابهون في الموت، لم يكن هناك علاج فلا أطباء في الجوار، فكيف حال الدواء،
ورجال الدين أو العرافين هم من يعتمد عليهم المجتمع في علاج كافة الأمراض حتى تلك الأمراض المستعصية على العلاج،
فهم وحدهم العارفون بدهاليزالغيب (كما كان يعتقد الشعب البسيط نتيجة انتشار البدع والخرافات وما يعلم الغيب الا الله ) وهم وحدهم الأقربون إلى الرب، فهم خلفاء الله في الأرض، وبعض من هؤلاء العرافين لا يزالون إلى الآن يعتقدون أن عينا شريرة هي التي أصابت عائلة الطفلة لالة.
لكن يبقى السؤال هل العين الشريرة التي يحدثنا بها العرافون المنجمون هي التي أصابت المجتمع،
لا أحد يصدق كلام العرافين، لا أحد يصدق تنبؤات المنجمين ولو صدقوا، لكن إذا لم يصدقوا كلامهم فماذا عساهم أن يصدقوا؟ الخيارات عندهم محدودة ومحدودة جدا، ولم يبق من العائلة التي كانت في الأساس أحد عشر فردا سواها ووالديها، الذين سرعان ما انفصلا ربما تأثرهم نفسيا لما حصل لأبنائهم التسعة،
فمن الصعب الاستسلام حتى ولو كان الخصم هو الاستعمار، وبعد فترة وجيزة من انفصال والديها عن بعضهما ورحيل كلاهما في حال سبيله ولم يعد يجمعهم سوى هذه الطفلة الصغيرة البريئة البشوشة المبتسمة والتي لا تدري شيء عما تخفيه لها الأيام،فهي لا زالت تطارد ظلها بين الخيام،
تزوجت أمها برجل آخر ربما على أمل منها ان ترزق منه بأبناء يملئون عليها الفراغ الذي تركه وفاة أبنائها التسعة في قلبها، فلا شيء أسوأ على الأم من فقدان فلذة كبدها،
لكن لأن القدر حينما يقرر لا مرد من قراره فالرجل الذي ارتبطت به الأم لم تشأ قدر الله أن يرزق منها بأبناء ولم يشأ أن يكون للطفلة لالة أخوة، يتقاسمون معها حمل الحياة،
هكذا ظلت الطفلة ""لالة"" وحيدة فزادت معاناتها مع وفاة والدها، فتكفل عمها(إقضيض) برعايتها لكن نتيجة الضغوطات التي تعرضت لها عند عمها بسبب كثرة الأعمال الملقاة على عاتقها والتي لا يتناسب بعضها مع سنها الصغير، طلبت من عمها مغادرة البيت الذي لم يكن له حينها من الأبناء سوى صبي صغير،
لجأت إلى عمتها الموجودة في منطقة ( أنفيف) والتي تبعد حوالي مئة كيلومتر عن منطقتها الأصلية( أغاروس---آنو ملن)
وهكذا عاشت المناضلة""لالة"" طفولة عسيرة.
3_ الجمال نعمة ونقمة
يمكن وصف هذه المرحلة من حياة المناضلة ""لالة"" والتي انتقلت منها للعيش في الجزائر، المرحلة الممتدة من سن المراهقة إلى ما بعد اكتمال نضجها الفكري والجسدي (بلعنة الجمال)
عانت في هذه المرحلة من حياتها عدم الأستقرار على صعيد حياتها الشخصية، راجع ذلك إلى ما أسبغ الله على هذه السيدة الفاضلة من جمال خلقي وشكلي، جعلها تعاني الكثير من المشاكل الناجمة عن هذه الهبة الربانية، فالجمال هبة ربانية قد تمنح حياة صاحبها سعادة أو تعاسة،
هذه المرحلة التي بدأت فصولها بانتقال"لالة"للعيش عند أقرباء لها في تامنغست، والذين على ما يبدوا أنهم لم يفهموا السلوك الأنسب للتعامل مع فتاة في مثل حالة" لالة" وكما ذكرنا سابقا وحيدة يتيمة ،
تعودت على مواجهة صعاب الحياة والاعتماد على ذاتها وتدبر أمور شؤونها الشخصية، فسرعان ما اكتشفت نوايا أقربائها التي لم تستوعبها في تلك الفترة، هذه النوايا لا ترتبط بالكراهية بقدر ارتباطها بالثقافة الاجتماعية.السائدة في المجتمع ،
التي يغلب عليها طابع المحافظة على الشرف (شرف العائلة) الشرف الذي لا يسأل عنه سوى الإناث، أما الذكور فهم الاتقياء الانقياء الأشراف بالفطرة، مهما ارتكبوا من خطايا فصك الغفران جاهز ليغفر لهم ذنوبهم ولو كانت كعدد حبات الرمل وزبد البحر،
فالمجتمع يغفر لهم كل شيء لا لشيء إلا أن الله خلقهم ذكورا، وخلق الإناث إناثا، فحين ترتكب الرذيلة وهي فعل مشترك بين الفتاة والشاب تعاقب عليها الفتاة أشد العقاب تنفى من المجتمع وتحرم من كافة حقوقها حتى تلك المتعلقة بالميراث هذا في حال لم تقتل وتدفن في وقتها،
أما الشاب فلن يسأل وسيبقى يمارس حياته بشكلها الطبيعي وسيبقى المجتمع يتعامل معه وكأن شيئا لم يكن، هكذا هو العرف الاجتماعي وهكذا جرت العادة في المجتمع قديما وحديثا، أما الفتاة وإن كانت أطهر من الطهارة ذاتها فزلة لسان واحدة منها قد تؤدي بها إلى حافة الهاوية، الفتاة في هذا المجتمع المعقد الغريب الأطوار،الفتاة خطيئتها كأي عضو من أعضاء جسمها تأتي معها ترافقها إلى الدنيا
"لالة" كحال معظم الفتيات في جيلها قام أقربائها بتزويجها مكرهة برجل يكبرها بعشرات السنين لم تكن بينهما أي علاقة ود مسبقة قد تفضي إلى رابط مقدس بقداسة الزواج، ونظرا لعدم وجود انسجام عاطفي أو ثقافي بينها وبين زوجها فلم يعمر زواجهما طويلا كما هو متوقع منه،
ومن الأشياء القليلة التي لا تخلو من الطرافة الأدبية التي حدثت معها في هذا الزواج والتي لا زالت عالقة في ذاكرتها إلى الآن ولم تستطيع تضاريس الحياة رغم قساوتها أن تزيلها، هي أنها قضت أسبوعا كاملا بأيامه ولياليه في بيت زوجها المفترض يدخل عليها ويخرج،وهي جالسة في زاوية البيت جلوس الغريب،
كثيرات هن النساء الآتي جئن عندها ولا تعرف بينهن الصالحة الناصحة والشريرة الشامتة فكلهن عندها سواء، لكن طيلة كل تلك المدة والتي قدرتها بسبعة أيام بلياليها السوداء هي كل عمر زواجها، لم تنظر إلى عظمة وجه زوجها ولم تعرف اسمه، ولا تعلم عنه شيئا سوى أنه الرجل الذي ارتبطت به مكرهة،
وفي الأسبوع الثاني من زواجها بدأت المشاكل بينها وبين زوجها تطفو على السطح، مشاكل كان يتوقعها كل من يعرفها ويعرف نوعية شخصيتها العنيدة، ومن الصعب على فتاة في مثل سنها وفي مثل قوة شخصيتها المتمردة بطبعها قبول بهكذا النوع من الزواج،
وأن تقبل لنفسها أن ترتبط برجل لا تجمعها به أية علاقة مسبقة ناهيك عن وجود علاقة عاطفية بينها وزوجها قد تفضي إلى زواج مستقر،
وفي النهاية بعد سلسلة من المشاكل بينها وبين أهلها من جهة وبين وزوجها من جهة آخرى، استمرت لعدة شهورأجبرت على أثرها اتخاذ قرار الفرار من تامنغست إلى ولاية غرداية الجزائرية
ومن هنآك استمدت كينتها (لالة غرداية) والتي عرفت بها بين الأوساط الاجتماعية أكثرمما عرفت باسم والدها الحقيقي والذي لم يعد يعرفه سوى ذوي القربى،
رضخ الزوج للأمر الواقع عندما رأى أن هذه الفتاة يستحيل عليه أن تعود زوجة له مرة ثانية، فطلب منها مقابل حريتها أن ترد له المهرالذي دفعه لها في بداية قصة زواجه الفاشل،
وكان طلبه على قلبها بردا وسلاما فردت له مهره وفوقه أطنانا من الشكروالإمتنان،
4_ لالة القدوة
المناضلة/ لالة (غرداية)
هي نموذج لما يجب أن تكون عليه المرأة التارقية المعاصرة المكافحة والمناضلة المعتمدة على ذاتها المتوكلة على ربها في قضاء حوائجها، والتي رأت من الويلات ما رأت وتحملت من الآلام في زمانها ما قد يفوق طاقة أي أنثى،
لكن كل تلك الآلام والمعاناة التي عانت منها "لالة" في صغرها وشبابها لم تخلق في نفسها عقدة تكرهها التقرب إلى شعبها، ولم يثنها ذلك عن خدمة شعبها والوقوف معه ومساندته في أزماته الإنسانية المتعاقبة، والتي يبدو من المعطيات المتوفرة أن لا نهاية لها في الأفق القريب، ليس من باب المدح والثناء،
لكن ما يجعل قصة المناضلة ""لالة غرداية"" قصة مختلفة ومؤثرة وتستحق منا كل الجهد الذي بذل من أجل كتابتها وصياغتها، هو اعتبار قصة هذه السيدة الفاضلة بحد ذاتها ملحمة نضالية تاريخية تعكس للقارئ المحلي والأجنبي المهتم بالشأن الأزوادي، عدة جوانب - إنسانية - اجتماعية - ثقافية - وأخرى نضالية من المشهد الأزوادي والذي لم تتناوله أقلام الكتاب بشكل يفي لها حقها، فمن خلال أحداث قصتها من زاويتها،
يمكن أن يفهم المتابع للشأن الأزوادي مدى العمق الذي وصلت إليه القضية الأزوادية في أفئدة شرائح المجتمع الأزوادي أجمع، وأن ننفي من خلال هذه الملحمة النضالية المتجسدة في السيرة الذاتية للمناضلة /لالة ولت محمد، عن القضية الأزوادية ما كان يروجه عنها أعداؤها وأعداء حرية الشعوب،
أن القضية الأزوادية منذ بدايتها إلى اليوم لم تخرج بعد تحت ريش أجنحة نخب المجتمع، وأنها قضية ظلت تتراوح في مكانها ولم تتشعب بين فئات المجتمع، لتصل إلى مستوى أن تكون فيه قضية شعب بكافة شرائحه المجتمعية ومستوياته الفكرية والثقافية،وهذا ما تنفيه رواية المناضلة/ لالة ولت محمد نفيا قاطعا،
وكما أسلفنا أن الاختلاف بين قصة المناضلة ""لالة"" وبين قصص الكثير من المناضلات عبر الأجيال لا ينبع فقط من كونها امرأة مناضلة قدمت عبر مسيرتها النضالية منذ أربعين عاما ويزيد ولازالت تقدم كل ما تستطيع من أجل حرية شعبها وسعادته، فهذا الاختلاف يتجسد أيضا في أسمى معانيه في شخصية السيدة/ ""لالة"" نفسها فقد كان بإمكان هذه المرأة صاحبة الشخصية الاستثنائية في زمانها ومكانها، أن تعوض حياة البؤس والحرمان الذي عانت منه في طفولتها البائسة، بحياة جديدة تغمرها السعادة والهناء والرفاهية، وأن تمارس حياتها بشكلها الطبيعي دون أن تعرض حياتها وحياة محبيها لكل تلك المخاطر التي تعرض لها والتي تعرضوا لها محبيها في مسيرتها النضالية، فهي تمتلك قبل أن تلتحق بمسيرة النضال الثوري للشعب الأزوادي من الإغراءات،
ما يدفع أية فتاة في سنها وفي جمالها وأناقتها أن تتخلى عن كل ما تؤمن به للاحتفاظ بما لديها والانعزال بنفسها بعيدا عن مشاكل المجتمع السياسية والاجتماعية والاقتصادية،
لكن ولأنها فتاة استثنائية كتب عليها أن تعيش في حقبة استثنائية وأن تكون في مجتمع استثنائي بكافة المقاييس، فقد تخلت هذه السيدة الفاضلة عن أشياء جميلة في حياتها في لمحة بصر، ولم تلتفت للإغراءات المادية والمعنوية التي كانت تحظى بها والتي قدمت لها فيما بعد لتتخلى عن مؤازرتها لشعبها، فمن أجل الانضمام والمشاركة في كفاح شعبها ونضاله لتحقيق أهداف قضيته السامية في تسعينات القرن الماضي،
قد تخلت المناضلة/لالة ولت محمد عن الزوج الذي قدم لها كل ما تتمناه أي فتاة من رفاهية في العيش، ولم يبخل عليها بأي شيء كان بمقدوره يقدمه لها،تخلت عن بيتها المريح تخلت عن العيش في مدينة هادئة بعيدة عن غبار الصحراء وشمسها الحارقة، تخلت عن كل أسلوب حياتها الرغيد الذي اعتادت عليه،
بمعنى أخر باعت أسلوب حياتها القديم بكل ما فيه من نعيم ورفاهية في العيش، اشترت حياة أخرى جديدة عنوانها الخوف والسير فوق حافة الهاوية، وكل هذا من أجل شيء واحد وهو أن تساهم ولو بشكل بسيط في تخفيف المعاناة المتراكمة على كاهل شعبها،
فمن الاستعمار وأسلوبه الوحشي الذي لم يترك لشعبها متنفسا إلا وقام بإغلاقه بأطنان من الجهل والفقر، إلى مخيمات اللجوء في دول الجوار الأكثر سوءا على شعبها من المستعمر والموت بحد ذاته،
ناهيك عن أعدائه في الداخل والخارج الذين ينهشون جسده يقطعون له أوصاله من كل ناحية،
5_ من البليدة كانت البداية
بدأت المناضلة ""لالة"" قصتها مع النضال بمفهومه الثوري، مع بداية. توارد أخبار الثورة الأزوادية تصل إلى الجزائر تباعا وبشكل سري وكان ذلك. في أواخر عام 1988، حيث كانت تقيم مع زوجها السيد/ إبراهيم إويغ في ولاية البليدة في أقصى شمال الجزائر،
ومن خلال مشاركتها المستمرة لجلسات زوجها إبراهيم إويغ--- مع أصدقائه--- يوسف أغ الشيخ-- والمرحوم-- أعميرة--- وسماعها لحديثهم المستمر عن الثورة، وعن معسكرات الثوار في ليبيا، تأجج لهيب الثورة في أعماقها و أحست بأن هناك شعب كامل من الأيتام والمشردين بالآلاف في مخيمات اللجوء، ينتظر من يقدم له يد العون، وأن حياتها الرغيدة كامرأة من هذا الشعب لم يعد لها أي معنى في ظل التشرد الذي يعاني منه مجتمعها،
وكل شيء حلو في حياتها لم تتقاسمه مع أيتام هذا الشعب لم يعد له معنى بعد الآن، لم تعد تسيطر على نفسها - لم تعد تتحكم في مشاعرها - لم تعد هي نفسها المرأة المحبة المتمسكة بالحياة،
فأفكار الثورة وأحلام التحرير أصبحت تسيطر على جوانحها، وأصبح قلبها خاليا إلا من عشقها للثورة وإيمانها بحتمية مشاركتها في أحداث الثورة المنتظرة، وبعد تفكير طويل ودموع في الخفاء على الخد تسيل،
توصلت إلى قناعة مفادها أنها يستحيل عليها كامرأة المساهمة في النضال الثوري لشعبها، وهي منعزلة عن مجتمعها في منطقة في أقصى شمال الجزائر، فطلبت من زوجها الرجل الفاضل-- إبراهيم إويغ--- المنتمي إلى قبيلة-إرجناتن--(الأزوادية) بزيارة أهلها في تامنغست وعندما وصلت إلى تامنغست وسماعها بما تقدمه النساء وخاصة نساء قبيلتها( شمناماس) للقضية الأزوادية من تضحيات جسام،
عزمت أمرها على أنها مهما يكن فإنها لن تعود للإقامة في البليدة مرة ثانية، فطلبت من زوجها أن يشتري لها منزلا في تمنغست لتكون هناك قريبة؛ مطلعة بما يجري من أحداث وما سيجري، ومتفاعلة بشكل إيجابي مع محيطها الاجتماعي الشعبي، البيت!!! وبعد إلحاح طويل على زوجها نزل عند رغبتها، ودفع لها قسط من قيمة المنزل الذي طلبت منه أن يشتريه إياها في ولاية تامنغست،
لكن لسبب ما لا تزال تجهله لم يكمل لها زوجها شراء المنزل، وأخبرها أنه لا يمكنه الإقامة في تامنغست وطلب منها أن تعود معه إلى البليدة محل إقامتهما الأصلية،
فأخبرته أنها لم يعد بإمكانها في ظل هذه الظروف التي تمر على شعبها الإقامة في ولاية البليدة البعيدة عن أهلها ومجتمعها، فطلبت من زوجها أن يطلقها بتراضي لا لشيء إلا لتكون قادرة على المساهمة بما تستطيع في كفاح شعبها نحو الحرية والاستقلال ولأن زوجها أيضا كان أحد رجالات الثورة البارزين،
تفهم لها موقفها النبيل الذي يعبر عن جوهر شخصيتها الحقيقية، فقد كان يعلم ما بإمكان زوجته أن تساهم به فلبى لها رغبتها وطلقها وانفصلا مثلما ارتبطا بتراض،
وكعادة رجال كل تماشق النبلاء، ورغم انفصالهما ولم يعد لها أي حق عليه، إلا أنه لم يخلف لها الوعد الذي وعدها به قبل أن يقررا على الانفصال شراء بيت لها في تامنغست،
فاشترى لها بيتا في حي (قطع الواد) في قلب تامنغست وبين أهلها بدل البيت الأول الذي تراجع عن شرائه في البداية بعد أن قطع لها وعدا بأن يشتريه لها ، وهو البيت الذي لا تزال تقيم فيه مع والدتها إلى الآن في تامنغست، لم يخلف لها الوعد الذي قطعه لها قبل أن يقرر الانفصال عن زوجته عاد هو إلى مكان عمله في ولاية أبليدة بينما بقت المناضلة ""لالة"" في تامنغست لتمارس نشاطها الإنساني الثوري،
6- 1988 تاريخ انضمام المناضلة "لالة ولت محمد إلى النضال الثوري الأزوادي،!!
في ذلك الوقت كانت الأجواء الأمنية متوترة وكان الأمن الجزائري على علم مسبق عن تحركات الثوار الأزواديين العائدين من ليبيا، لإعلان قيام الثورة الأزوادية المباركة، وقد تعرض الكثير منهم للاعتقال والإضطهاد والمناضلة ""لالة"" لم تكن استثنائية، كان الأمن الجزائري كغيمة سوداء تحوم في سماء كل ثائر وثائرة وكل ناشط وناشطة وكل داعم وداعمة للقضية الأزوادية بأي حال من الأحوال، فهؤلاء يدركون مدى الخطر الذي يترصد ويتربص بهم في حال اكتشف أمرهم وفضح سرهم، مع كل تلك المخاطر المحدقة بالمناضلة ""لالة"" إلا أنها لم تبالِ ولم تكترث ولم تضع حساب لحياتها، وبدأت أولى خطواتها الثابتة في طريق النضال من خلال ترددها على بيت، السيد/ أنتو'' والذي عادة ما تجتمع فيه نساء القبيلة (خلية الثورة) في أحد أحياء تامنغست سرا،
لكن الشيء الذي لم تستوعبه "لالة" الشيء الذي يمكن أن يوصف بالغريب ذلك الموقف الذي تعاملت به النساء معها في البداية، فكلما دخلت عليهن قمن بفض الاجتماع مبررات ذلك التصرف لانشغالهن بأعمال أخرى، وقد تسبب لها هذا السلوك الغير طبيعي من نساء هن بنات عمها وقريباتها وصديقاتها الكثير من الحرج، ولم تجد تفسير منطقي لسلوك النساء تجاهها سوى أنها امرأة متزوجة أو كانت متزوجة عما قريب من رجل من خارج القبيلة، وربما تخشى النسوة على أنفسهن من أن تنقل سرهن إلى أشخاص وجهات أمنية غير مرغوب فيها. ما قد يعرض حياتهن ومصير قضيتهن للخطر، وهذا أمر منطقي تعاملت معه بكل رحابة صدر كعادتها، ولم يطل بها الأمر في هذه الدوامة حتى اتصل بها أحد قيادات الجبهة البارزين والذي استشهد فيما بعد في معركة قاوة التاريخية عام 2012 ميلادي بعد شهرين من تاريخ إعلان استقلال دولة أزواد والكلام هنا عن شهيد الوطن""""بونه أغ الطيب""" وأخبرها بكافة التفاصيل التي تعنيها، وما يجب عليها أن تفعله في هذا الوقت لمساعدة الثورة والثوار في جبهات القتال المقبلين عليها، والمعتقلين في سجون الاحتلال المالي في قاوة عاصمة إقليم أزواد، وبعدها ذهبت إلى صديقتها وقريبتها المناضلة "هاس ولت تابيهات" والتي طلبت منها أن تضعها في الصورة الكاملة لما يحدث، وأخبرتها بأن النساء قمن بتأسيس صندوق تبرعات لصالح الجبهة،فطلبت من المناضلة "هاس ولت تابهيات" والتي لا تزال على قيد الحياة أن تخبرها بالقيمة المادية المخصصة عن كل امرأة، فقامت بتسديد كل ما عليها من مستحقات لصندوق الجبهة دفعة واحدة من التاريخ الذي بدأت فيه النساء في التبرع لصندوق الجبهة إلى اليوم الذي التحقت هي به،
7_ لالة' العودة إلى أزواد
لم تطل إقامتها في تامنغست فقد شكل مكتب نساء (شمناماس) الداعمات للثورة فريقا من النساء الناشطات تتلخص مهامه في العودة إلى أرض الوطن وتقديم دعم السجناء القابعين في سجون الاحتلال المالي في مدينة (قاوة) وإيصال فكرة الثورة لأكبر عدد ممكن من شرائح المجتمع الأزوادي، وخاصة شريحة النساء التي تعتبر شبه مغيبة عن الأحداث رغم أن شريحة النساء هي إحدى أهم الركائز الأساسية للمجتمع التي يعتمد عليها في إنجاح مشروع الثورة الوليدة،
وهذا الفريق الثوري العائد إلى أرض أزواد،،، يتكون بالإضافة إلى المناضلة/ لالة ولت محمد، المغفور لها بإذن الله ميتوغ ولت ادهلتن أغ حمدين، المناضلة نينه،المناضلة تكستنت ولت محمد والتي غادرت تامنغست إلى أزواد قبل أن يغادرن بيومين وبدأت المجموعة في تجهيز نفسها للسفر و لعدم توفر سيارات الأجرة في ذلك الوقت، وقلة من يمتلك سيارة خاصة من أقاربهن في تامنغست،أجبرن على السفر في شاحنة خاصة لنقل البضائع بين الجزائر وأزواد، وحسب كلامها،، فضلت المناضلة/ لالة ولت محمد الجلوس في عربة السيارة لتعوّد نفسها كما تقول على تحمل الظروف القاسية،
وهو الأمر الذي تسبب لها بنزيف حاد (أهونشر) كاد أن ينهي حياتها لولا تدخل إرادة الله، عند وصولهن إلى كيدال التي حظين فيها بترحيب كبير من أعيان المدينة ووجهائها، فلم تكن ليلة ولا نهار طيلة مدة إقامتهن في كيدال إلا وأعدت لهن وليمة في بيت من بيوت أحد رموز المدينة ووجهائها، وهذا ليس بالأمر المستغرب من أهل كيدال فهم أهل الجود والكرم، بعد عدة أيام قضيناها في مدينة كيدال
أكملن رحلتهن إلى مدينة قاوة العاصمة الإدارية للإقليم،
وعندما وصلتا نزلن في بيت صديقتهن المناضلة/ تكستنت ولت محمد، والتي وصلت إلى المدينة قبلهن بأيام -- وبدأت المناضلة/ لالة وصديقتها
ميتوغ ولت إدهلتن والتي انتقلت إلى رحمة بداية عام 2019 ميلادي،في سلسلة مكثفة من الاجتماعات التوعوية مع سيدات المدينة لإيصال فكرة الثورة وأهدافها لأكبر عدد ممكن من النساء في قاوة الشريحة التي لا تزال مغيبة عن المشهد السياسي. وكانت كل تلك الاجتماعات تجري في غاية السرية،
وبدأت أولى الاجتماعات التثقيفية بتوالي ،،، في بيت السيدة/ تاربت ، السيدة/ جدته ولت حمنا
السيدة/ ليلى ولت بلال، وهن من رموز سيدات مجتمع قاوة،
"ملاحظة في صور الأجزاء السابقة كانت مرفقة بإسم (لالة غرداية) الاسم الشهير للمناصلة وبما أن الجزء السابع تحت عنوان العودة إلى أزواد فقد اخترنا أن نكتب إسمها الحقيقي ( لالة ولت محمد ) لأنها كما ذكرنا في الاجزاء السابقة فقد عادت لالة ولت محمد إلى وطنها بعد غربتها لتواصل مسيرة النضال"
8_ المناضلة /لالة ولت محمد على رأس قائمة المطلوبين
صادف.وجودهن في بيت السيدة/ ليلى ولت بلال مع عدد من نساء المدينة، وصول خبر مفاده أن شخص (لم تسمه) أبلغ السلطات المالية عن تحركاتهن في المدينة، وأن اسم المناضلة/ لالة ولت محمد بالتحديد على رأس قائمة المطلوبين لدى الأجهزة الأمنية في المدينة. وكانت قبل مدة قد اشترت هي والمناضلة/ تكستنت ولت محمد،كمية معتبرة من السلع التموينية لغرض نقلها إلى منطقة تيجريرت لتكون دعم لوجستي للثوار حين تبدأ المعارك، والتي أصبحت على الأبواب في تلك الفترة، وهذه الأحداث التي عاشتها المناضلة/ لالة ورفيقاتها في قاوة،هي الأكثر خطرا على حياتها وحياة كل إنسان أزوادي في تلك الفترة، وما يجعلها أكثر خطر على حياة المناضلة/ لالة ورفيقاتها تزامنها مع بداية خروج الثوار الذين كانوا يقومون بدور الاستطلاع والمراقبة وجمع المعلومات عن تحركات الجيش المالي في مدينة قاوة، إلى خارج المدينة التي بدأت أسوارها تضيق شيئا فشيئا على أهلها الأصليين، باتجاه منطقة تيجريرت الجبلية والتي أعدها الثوار مسبقا نقطة التجمع الأساسية لهم، لبدايات انطلاق عملياتهم العسكرية في عموم أزواد، ولم يبق من الثوار في قاوة سوى عدد قليل قدر بعشرة أشخاص ومن بينهم قادة الجبهة البارزين. من أمثال العقيد/ الصلاة أغ خبي، والذين فضلوا البقاء في المدينة من أجل تمويه وتضليل الأمن المالي حتى يتمكن رفقاؤهم الثوار من مغادرة المدينة قبل أن يتم اكتشاف أمرهم، وصل الخبر للعقيد/ الصلاة أغ خبي والمرحوم/ حسن فأتوا لنا بسيارة وطلبوا منا مغادرة المدينة فورا، حاولت أن أرفض لكن المرحوم/ حسن لوح بضربي بحزامه في حال لم أسمع كلامهم وأغادر المدينة وكان يردد عبارة ( ألم تسمعي أن اسمك أنت بالذات على رأس قائمة المطلوبين عند الأمن المالي) وتحت الضغط و التهديد استقلينا السيارة وغادرت بنا المدينة، وكان يرافقنا عدد من الثوار ومن بينهم على ما أتذكر الشهيد/ نوح والذي افترقنا معه عند وصولنا لمنطقة ( تين أوكر) التاريخية ((العاصمة التاريخية لقبائل شمناماس)) وواصلنا طريقنا إلى "كيدال" التي لا تزال هادئة بحكم أن غالبية سكانها من كل تماشق، قضينا فيها ليلتنا وفي الصباح الباكر وجدوا لنا سيارة يقودها شخص من عرب أزواد، وكان هذا الشخص يردد طيلة الرحلة عبارة (( لو كان معي سلاح لقمت الآن برميه في الصحراء)) ولا أدري هل كان الرجل يقصدني أنا بكلامه أم كان يشك فينا فقط، فأنا كنت قد حزمت على خاصري قبل أن نغادر كيدال كل ما كان تحمله المجموعة التي أرافقها من الثوار من مستندات تحتوي على أسرار مهمة تتعلق بالجبهة بالإضافة إلى مسدسين عيار 9 ملم، وعند وصولنا إلى منطقة أشبرش الحدودية نزلنا في بيت السيد/ هوسه، وفي الصباح وصل ضابط جزائري لا أدري من أخبره عن وصولنا،يسأل عن المرأة المسماة ب لآلة غرداية ويقول بأنها مطلوبة لدى الأمن الجزائري، وعلى عجل من أمرنا وجدوا لنا سيارة تنقلنا إلى تامنغست،وعاد الثوار الذين كانوا برفقتنا إلى منطقة تيجريرت ليلتحقوا بأخوانهم الثوار،وخلال تلك الفترة أصبحت النساء في تامنغست(كخلية نحل) لم تترك النساء شيء يعتقد أنه قد يكون داعما للجبهة إلا قمن به، وخاصة نساء قبيلة شمناماس التي كانت شاهدة عليهن،
9- ضريبة النضال
سريعا مادفعت المناضلة/ لالة ولت محمد ثمن نضالها ودفاعها عن حقوق شعبها المتجذرة في عمق التاريخ،من حريتها الشخصية، فقد كان من نصيبها أن تعرضت في حياتها إلى ثلاث اعتقالات تعسفية كلهم كانوا على يد الأمن الجزائري، آخرهم أسوأ عليها من أولهم وكان أولهم بعد عودتها من أزواد مباشرة، تحكي وتقول في بيتي المتواضع في حي(قطع الواد) تامنغست والذي تحول إلى نزل للثوار سواء أولئك العائدين من ليبيا مرورا بالجزائر وصولا إلى أزواد،أو حتى الثوار القادمين من إقليم أزواد مرورا بالجزائر لعرض الالتحاق بمعسكرات التدريب في ليبيا فالقليل من الأشخاص هم من يتجرأ فقط في تلك الأيام على فتح بيته للضيوف، في ظل ما يشبه الحصار الأمني الذي تعيشه الجزائر في تلك الحقبة الزمنية ليس بسبب ما قد يحدث في أزواد لاحقا وإن كان أحد الأسباب، لكن السبب الحقيقي والرئيسي هو قرب العشرية السوداء، والتي راح ضحيتها الآلاف من أبناء الجزائر وكانت بدايتها وصول التيار الإسلام السياسي (جبهة الإنقاذ) عن طريق انتخابات حرة ونزيهة على حسب ما يدعون إلى سدة الحكم في الجزائر، وهو الأمر الذي لم ترض به الدولة العميقة متمثلة في المؤسسة العسكرية بنتائجها، فانقلبت عليها فكان ما كان وأكثركم على علم به، وفي ظل هذه الظروف الأمنية الصعبة والمعقدة، من الطبيعي أن يكون بيتي تحت مراقبة عيون الأمن الجزائري وأعوانه في المدينة، وهو أمر كنت أضع له حسابا مسبقا، فقد كنت على علم أن كل ما يحدث في المدينة يصل إلى الأجهزة الأمنية وهو خبر لا يزال طازجا، لكن ماذا أفعل،،،؟
المهم**
وفي أحد الأيام والتي كنت فيها جالسة في منزلي لا لي ولا علي حينما تفاجأت بمداهمة الأمن الجزائري ومحاصرتهم منزلي ثم اقتادوني في سيارة معتمة إلى جهة أجهلها،
وعند وصولهم بي إلى مبنى حكومي في ضواحي تامنغست.وضعوني في إحدى غرف المبنى المغلقة ودخل المحقق علي وبدأ في استواجبي، ولم يترك سؤالا إلا وقد طرحه علي وكل الأسئلة التي طرحها علي المحقق تتعلق بمعلومات تخص الجبهة وقادتها، وأكثر الأسئلة التي طرحها علي المحقق لا أملك لها جوابا، بحكم أنها أسئلة في معظمها تتعلق بمعلومات سرية لا يملك الإجابة عنها سوى قادة الحركة ورموزها الكبار،وعندما خاب أمل المحقق معي ولم يجد عندي ما يشفي غليله من معلومات قد يستفيد منها هو وحكومته، قام بنقلي إلى حجرة ،صغيرة ،ضيقة ،مظلمة، لا نوافذ، بقيت فيها بدون طعام أو شراب لمدة يومين متواصلين،وبقدرة القادر لم أتعرض لأي أذى جسدي طيلة اليومين الذين قضيتهم عندهم في الاعتقال، وبعد الإفراج عني عدت إلى البيت وأنا مريضة منهكة خائفة حائرة لا أدري ماذا أفعل؟ وكيف سأتصرف؟ فكل الأبواب سدت أمامي ، لكن هذا لم يجعلني أتخلى عن العمل النضالي رغم أن الكثير من الناس طلب مني ذلك خشية على حياتي، لا أخفي عليكم فكرت مرارا وتكرارا في اعتزال العمل النضالي بعد كل حادثة اعتقال أتعرض لها،لكن كلما فكرت في الاعتزال خوفا على سلامة حياتي والعودة إلى ممارسة حياتي بشكلها الطبيعي كأي فتاة في عمري وكل الفرص متاحة أمامي في تلك الفترة ، أعيد التفكير فيما يعاني منه أخوتي المعتقلين خلف أبواب السجون السرية من الويلات، والآلاف المؤلفة من أبناء شعبي المشردين في مخيمات دول الشتات، أتأمل حالي وأجدها على أفضل حال،فأقوم بطرد فكرة الاعتزال من رأسي وأقنع نفسي بأن هذا هو المصير الذي خلقت من أجله وهذا هو قدري المحتوم والذي لا مفر منه، والذي يجب أن أتعايش معه بخيره وشره، بعد خروجي من سجن الولاية مباشرة اجتمعت نساء القبيلة قمن بتزكيتي كرئيسة لمكتب نساء شمناماس الثائرات في تامنغست وهو شرف كبير مازلت أعتز به، الحقيقة أنني لم أستطع أن أقدم لهن كل ما أحببت تقديمه، أو ما كنا يأملن أن أقدمه لهن، لكنني قد فعلت كل ما استطيع فعله لم نترك بابا إلا طرقناه ولا عملا من شأنه دعم الثورة إلا وقمنا به، سافرت إلى ولاية غرداية الجبلية ومن أسواقها اشتريت كل ما كان باستطاعتي شرائه من المواد ومن الأدوية إلى البطاطين، والملابس، والاحذية وأشياء كثيرة لا أتذكرها وكلها من مالي الخاص،فلم أخذ فلسا واحدا من صندوق التبرعات،عدت إلى تامنغست وكانت النساء قد جمعن ما تحصلن عليه و قمنا بشحن كل تلك البضاعة إلى تيجريرت لدعم الثوار في جبهات القتال،وعند عودتي من أزواد إلى الجزائر بعد اشتعال الحرب الأهلية في أزواد.كان في أنتظاري الأمن الجزائري مرة اخرى الذي لم يتأخر في القبض علي ورماني بين جدران السجن المخيفة، وتعرضت فيه لأشد أنواع التعذيب الجسدي والنفسي لمدة شهر كامل، ورغم براءتي من المحكمة إلا أنهم فرضوا علي دفع كفالة مالية كبيرة مقابل الإفراج عني، عانيت كثيرا كما قلت سلفا حتى أستطعت أن أجمعها وعانيت أكثر حتى أستطعت الإيفاء بها لأصحابها، رحلتي في الحياة كانت شاقة ومؤلمة ورحلتي في النضال كانت أكثر إيلاما ، فقد عانيت فيها الكثير من الآلام، فلو لم يكن إيماني المطلق بعدالة القضية الأزوادية لتسبب ذلك عن تراجعي عن الكفاح، وجعلت نفسي في منطقة رمادية، لكن حينما يؤمن الشخص بشيء إيمانا صادقا وعميقا حتى يصبح جزء لا يتجرأ من عقيدته الروحانية فمن الصعب هنا أن يتخلى عن الإيمان به وخاصة في هذا العمر،
فأنا كما تعلمون ربما لم يشأ الله أن يرزقني بأبناء من صلبي واعتبرت كل أبناء هذا الشعب أبنائي وأحفادي وفلذات كبدي ....وعانيت أكثر حتى أستطعت الإيفاء بها لأصحابها، رحلتي في الحياة كانت شاقة ومؤلمة ورحلتي في النضال كانت أكثر إيلاما ، فقد عانيت فيها الكثير من الآلام، فلو لم يكن إيماني المطلق بعدالة القضية الأزوادية لتسبب ذلك عن تراجعي عن الكفاح، وجعلت نفسي في منطقة رمادية، لكن حينما يؤمن الشخص بشيء إيمانا صادقا وعميقا حتى يصبح جزء لا يتجرأ من عقيدته الروحانية فمن الصعب هنا أن يتخلى عن الإيمان به وخاصة في هذا العمر،
فأنا كما تعلمون ربما لم يشأ الله أن يرزقني بأبناء من صلبي واعتبرت كل أبناء هذا الشعب أبنائي وأحفادي وفلذات كبدي ....
10-مواقف خارج النص
المسافر من الجزائر إلى أزواد بطرق الشرعية المعتادة بين الدول،
يلزم منه قبل الدخول إلى الأراضي الأزوادية الوقوف أولا على منفذ الحدودي (تين زواتين) لختم الأوراق والسماح له للعبور إلى الشطر الأزوادي من تين زواتين،
وهو الأمر الذي قامت به المناضلة "لالة" ورفيقاتها بعد سفرهن من الجزائر إلى أزواد،
وصادف أن كان يشرف على المنفذ (تين زواتين) ضابط جزائري من مدن شمال الجزائر
كما تشير لهجته وملامح بشرته البيضاء،
لكن لشيء ما في نفس يعقوب.
كما يقول المثل العربي، حاول الضابط الجزائري كثيرا أن يماطل ويعرقل ويمنع مرور السيارة التي تقل المناضلات من العبور إلى الأراضي الازوادية رغم سلامة إجراءاتهن،
وكأن هذا الضابط الجزائري كان ينتظر لشيء قادم أجهله وعندما وجد أن هذا الشيء الذي كان يماطل لانتظار وصوله لن يأتي،
سمح لنا بالمغادرة ،
ومن غرائب الأمور أن يكون الضابط نفسه من جاء يبحث عني بعد عودتي من قاوة هربا من الأمن المالي،
ويخبر من يلتقي معه بأن الأمن الجزائري يضع اسم المرأة "لالة" على قائمة المطلوبين،
وتكرر معي نفس الموقف مع اختلاف الظروف وربما حتى النوايا، عند وصولنا إلى "كيدال" لكن هذه المرة مع ضابط آخر من الجمارك المالية،
وللمرة الثالثة على التوالي يتكرر معنا ذات الموقف لكن هذه المرة بعد عودتي من قاوة في طريقي إلى الجزائر،
فقد تصادف أن التقيت السيارة التي تقلنا من "كيدال" إلى منطقة أشبرش الحدودية برتل عسكري من الجيش المالي كان يقوم بدوريات اعتيادية في المنطقة، أستوقفنا الرتل وصعد الضابط إلى السيارة،
ولفت أنتباه الضابط حقيبة سفر جديدة أنيقة بين الأمتعة المبعثرة في صندوق السيارة الخلفي،
فأنزل الحقيبة دون غيرها من الأمتعة الموجودة في السيارة،
صرخ ونادي بصوت مرتفع على صاحب الحقيبة وكان في حالة هيجان وغضب غريب، وكأنه وجد على متن السيارة قنبلة نووية على وشك الانشطار وليست مجرد حقيبة سوداء لمرأة مسكينة أرهقها السفر، الحقيبة خالية إلا من بعض الأعراض الخاصة بالنساء،
ترددت في البداية لكن بعد تكراره وإلحاحه في طلب صاحب الحقيبة، في لحظة
لا شعورية ترجلت من السيارة،
وتقدمت إليه بخطوات مملؤة بثقة الزائفة بنفس الممزوجة بالخوف الحقيقي من المجهول، خطوات تحاول أن تخفي خلفها خوفها من اكتشاف الضابط أمر أسرار قضيتها المخفية بين طيات ملابسها،
تقدمت حتى وقفت بين يديه وأخبرته بأنني صاحبة الحقيبة التي يبحث لها عن صاحب،
والتي يعكس لونها الأسود حال شعبها المتشرد التائه في مناكب الأرض،،،،،،،،،،
نظر إلي الضابط وبقيت واقفة ودقات قلبي تتسارع، وقال إذا أنت صاحبة الحقيبة!! فأخبرته نعم أنا صاحبة الحقيبة!! فسألني عما تحتويه الحقيبة في داخلها فأخبرته لا يوجد فيها سوى بعض الأشياء الخاصة بالنساء-- ملابس بالية، قنينة عطور، وخلال والسوار قديمة استعملها عند الحاجة،
الضابط هذا كل ما في الحقيبة،
لالة نعم هذا كل ما في الحقيبة وإن أردت سأفتحها لك لتتأكد،
بدأت ملامح الغضب المرسومة على وجه الضابط تختفي وتحل محلها ملامح الهدوء،
ربما لأنه وجد أن صاحب الحقيبة ما هي الإ إمرأة عادية، ومن المستحيل أن يتوقع أن هذه المرأة المتوقفة بين يديه الآن تخفي تحت ملابسها البالية، أهم أسرار الجبهة والتي إن تحصل عليها حينها ربما زادت حكومته المجرمة من الأوسمة والأنواط على أكتافه،
الضابط لا داعي من فتحها فأنا أصدقكي،
طلب منا الضابط المالي أن ننزل حتى نتغدي معهم،
فرضخنا لطلبه رغم أننا لسنا على وفاق معه لكننا مستعدين حينها لفعل أي شيء مقابل أن لا نلفت الانتباه إلينا،،
وعندما أكملنا طعامنا رافقنا الضابط حتى اقتربنا من منطقة أشبرش ففترقنا معه هناك وإلى الأبد،
11- اتفاقية الجزائر 1993
عند مراسم التوقيع على اتفاقية الجزائر
سنة 1993 ميلادية بمدينة تامنغست،
كنت في وفد أزوادي يضم بعض الشخصيات الأزوادية البارزة الموقعة على اتفاقية تامنغست أتذكر منهم المرحوم /الشيخ أغ أوسا
وعند انتهاء التوقيع على مراسم الاتفاقية في تامنغست، وفي الاجتماعات الجانبية للوفود أخبروني بوجود الضابط المالي السيء السمعة (إنغونان)
(((لقب عند الثوار إنغونان لأنه حسب ما تقول الرواية عند اشتداد العمليات العسكرية التي ينفذها الثوار الأزواديين على ثكنات ودوريات الجيش المالي كلف الضابط الملقب إنغونان من حكومته لإنهاء التمرد والقبض على اللصوص حسب ما يقولون، جاء إلى جبل تيجريرت برتل جرار من الدبابات والأسلحة الثقيلة والخفيفة وقيل إنه كان يحمل معه عددا من الحبال والتي من المفترض أن يأسر كافة الثوار ويربطهم بالحبال كما كانوا يفعل الأوروبيون بأسلافه
في القرن السابع والثامن والتاسع عشر،
لكن الثوار المدججين بالإيمان أفشلوا له مخططه فلم تسير الرياح كما تشتهي السفن،
ففي أول حملة عسكرية قادها على الثوار المتمركزين في جبال تيجريرت تعرض إلى هزيمة شنعاء على يد الثوار وعاد إلى قاوة خائب الرجاء خالي الوفاض هاربا بجلده تاركا خلفه جثث جنوده مبعثرة في الصحراء تلتقطها الغربال كما تلتقط الطيور حبات الزيتون في موسم الحصاد، فالقب عند الثوار بناء على تلك الحادثة- -إنغونان--)))
والذي سمعت فيما سبق أنه يبحث عني فتقدمت إليه ربما ظنا مني أني بذلك قد أشفي منه غليلي،
وأخبرته بأنني أنا المرأة المسمى
لالة غرداية
التي سمعت أنك تبحث عنها خلال الأعوام الماضية، وأنك تمتلك لها ملف أمني كامل خاص بها في رفوف مكتبك الأمني في بما كو،
فما كان منه إلا أن مد لي يده مبتسما
قائلا (خلاص "لالة" كل ذلك انتهى وأصبح من الماضي نحن الآن أبناء اليوم) لا أخفي عليكم الضابط أمتص غضبي بكلامه المؤدب والمحترم معي حتى أشعرني بنوع من الخجل من الطريقة التي عرفته به على نفسي،
والتي لا تخلو من الافتزاز واستعراض الذات،
ومن باب الأدب عاملته بالمثل، لكن في نفسي كنت أردد لا يسعادة الضابط المحترم لم ينته كل شيء بيننا مثلما قلت ولن ينتهي، فحتى الحرب مازالت قائمة بيننا فما زالت الجبهة الشعبية لتحرير أزواد بقيادة
(عيسى قوفا) لم تلق سلاحها ولم توقع على اتفاقية تامنغست، واستمرت في قيادة العمليات العسكرية ضد الجيش المالي بعد أن وقعت بقية الفصائل والحركات على بنود الاتفاقية تامنغست، لمدة( 3) سنوات،
لغاية ما رضخت لضغوط التي مورست عليها من الداخل والخارج ،
إلى الدخول في مغمغة السلام الهش والمزعوم مع دولة مالي عام 1996،
لكن الجبهة الشعبية لتحرير أزواد ممثلة في قيادتها التاريخية، عيسى سيدي محمد (قوفا) اكتفت بإعلانها وقف عملياتها العسكرية ضد الجيش المالي من جانب واحد،
ولم توقع على الاتفاقية تامنغست بشكل رسمي إلى يومنا هذا،
وهو أحد الأمور المهمة التي استندت عليها الحركة الوطنية لتحرير أزواد في إعلان مشروعية عملياتها العسكرية لتحرير أزواد للمجتمع الدولي التي أطلقتها عام 2012،
واستغرقت شهورا عديدة إلى تحرير كامل الأراضي الأزوادية وطرد المستعمر المالي وإعلان دولة أزواد المستقلة وعاصمتها قاوة،
وكان ما كان،
12- خاتمه
خلال مسيرتي النضالية والتي ناهزت عقدين من الزمن، عانيت فيها الكثير من المواقف المؤلمة، والتي لا يزال بعضها أعاني من تبعاته السلبية على مستوى الجسد أو على مستوى الروح التي تسري بين مسامات هذا الجسد،
مواقف مؤلمة من الممكن أن أتجنبها، لو لم أكون مشاركة في هذا النضال،
لكن ماذا أفعل؟ فلو كان كل شخص من هذا المجتمع الذي أنتمي إليه تعرض لأذى،
وتراجع عن الدور النضالي المنوط به،
لما كان هناك شيء يسمى النضال،
ولما كان هناك شيء يسمى الحرية،
ولما كان هناك شيء في الأساس،
يسمى وطن، والذي لا يتأتى إلا بنضال،
أكثر الأشخاص الواهمون هم من يختارون طريق النضال ثم يعتقدون أن طريقهم ستكون مفروشة أمامهم بالياسمين،
إذا كانت الأجيال اللاحقة كالأجيال السابقة صادقة في مواصلة طريق النضال، فعليهم بتوحيد جهودهم ورص صفوفهم، والقضاء على النعرات القبلية والطائفية والمناطقية والجهوية فيما بينهم، والمضي قدما في طريق الحرية حتى يتحقق الحلم الذي ضحى من أجله الرجال والنساء والأطفال،
فمهما كانت الصعوبات والتحديات فلا يجب أن تكون عائقا يقف أمام إرادة الأجيال القادمة في استكمال في المسيرة التي بدأها الأجداد وأوصلها إلينا الآباء،
بل يجب أن تكون هذه الصعوبات وإن تراكمت وتفاقمت هذه التحديات دافعا قويا لتحقيق أحلامهم وآمانيهم،
طريق إلى الحرية لم تكون يوما مفروشة بالورود والأزهار،
وإذا كان العالم اليوم توحدت فيه قوة الشر للوقوف أمام تحقيق أحلامهم، فالعالم يتغير ونحن يجب أن نبقى ثابتين على مبدانا، متمسكين بقيمنا، ندافع عن حقنا في الوجود، عن حقنا في الحياة، عن حقنا في العيش أحرار، تحت الشمس وفوق الأرض،
على أجيالنا القادمة أن تعي جيدا أن أسلافهم لم يثوروا حبا في الثورة، ولم يقاتلوا حبا في القتال، بل لأن كافة الأبواب سدت من أمامهم ولم يعد لهم خيار سوى حمل السلاح للدفاع عن حقوقهم المسلوبة وأعراضهم المنتهكة،
ولم يثوروا ليطالبوا بشيء ليس من حقهم، إنما ثاروا للمطالبة بأشياء تعتبر من أساسيات الطبيعية لحقوق الإنسان المعترف بها عالميا،
بقلم
📝 ادول اغ السعيد📝
بقلم
📝 ادول اغ السعيد📝
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق