إنها قصة أرويها بألم يعصر القلب، وتصور يذهل العقل، لواقعة حدثت في قاوة، إثر الهجوم علي منكا، في التاسع والعشرين من يونيو سنة تسعون وتسعمائة ألف، نقلتُها على لسان صاحبتها التي تركت أثراً عميقاً في نفسها، ونقوشاً على حياتها، ورسوخاً في ذاكرة توماست، بصوت حزين مرفوق بالإيمان بقضاء الله وقدره،
تقول[ تكستنت ولت موحمد ]
صورة المناضلة بعد الاعتقال
حملت رضيعتي، التي لم يتجاوز عمرها بضعة أشهر، وذهبت مع عدد محدود من النساء الأزواديات، اللاتي أخترن أن يكن بجانب الثوار، ويشكلن دعماً لوجيستياً، وفريقاً إسعافياً للجرحى...مكثت أنا في بيت عمي المتقاعد من الجيش المالي، في مدينة قاوة، لإستقبال القادمين من الثوار وإعداد بعض المؤونة لهم، في ذات الوقت علم الجيش المالي بوجودهم، عن طريق بعض المخبرين الذين لاحظوا وجوه جديدة في المدينة، من أصحاب البشرة البيضاء أو "إميشوغن" كما يسمونهم، فنفذ الجيش جملة من الإعتقالات، لردع النضالالثوري ضدهم. ــ باشرت المناضلة قولها: لقد سُلمت لي في هذه الأثناء مهمة من قبل الثوار ألا وهي " والإهتمام بشؤون السجناء" كنا وبعض من يساعدني في هذه المهمة، ننتظر أياماُ ليسمح لنا بإدخال الطعام على المعتقلين. ــ وكانت الإعتقالات بداية عاصفة التعذيب والتنكيل. ففي التاسع والعشرين من شهر يونيو الذي لا ينسى، شاعت معلومات لدى الأمن المالي تفيد أن من بين الهاجمين على منكا نساء يزغردن مع رصاصات الثوار...فبعد هذه الإشاعة أصبحت بيوتنا مستباحة، ونفوسنا بلا حرمة، أما أنا فوقعت في قبضة الجيش كما سبق به غيري، وأتوا بي أنا وطفلتي الى ساحة العسكر، وتم تركي واقفة تحت حرارة الشمس، حاملة صغيرتي فوق ظهري، مرت ساعات ونحن واقفون والجيش يحيط بنا وهو مسلح، وكأنه ينتظر ردة فعل منا ولوعفوية لكي يتذرع بإطلاق النار علينا...مر على ذهني شريط أسئلة سريعة، الى متى سنبقى هنا؟ وما مدى فرص النجاة؟ وكيف سأحمى رضيعتي؟ وكيف تتحمل؟...ولكن كنتُ مؤمنة أنه لن يتم التحرير ونحن كلنا أحياء. ـــ وبكل قسوة إنتٌزعت منى طفلتي ويـــــــــــــاليتهم أخذوا روحي قبلها، فقد أنتزعوا رغبة بقائي في الوجود، وأملي في الحياة، فلم أتحمل رؤيتها وهي ملفوفة في شرنقة بالية، لا تتحرك فيها ساكنة، وكم تمنيت أن تبكي حتى أتأكد أنها تدب فيها الروح، فالمسكينة بقت لساعات دون إرضاع...{تنهدت الأم الجريحة وبصبر على تحمل نوائب الدهر واصلت حديثها : فقد أخبروني بأنها أعطوها لإمرأة آخرى ، وربي وحده يعلم تفطر قلبي على حالتها الصحية، فجسمها الصغير لا يتحمل...تم وضعوا الأغلال في يداي من وراء ظهري، وسٌج بي في غرفة مكتظة بالمساجين، أول من وقع عليه نظري هو " الشيخ أحمد اغ مخاخا" فقد رأيته في وضع لا يحسد عليه مما زاد من أوجاعي، فقد كان هذا الشيخ يحاول أن يخفي لحيته أمام ناظراي، بطرف منديل وكلما أخفى جانبا ظهر جانب آخر وبلغ به العرق ما بلغ [من عادت الرجل التماشقي عدم إظهار معاناته للمرأة،فهو يُبدي تحمُله في أصعب الظروف]. ــ ثلاثة أسابيع وأنا تحت التحقيق والتعذيب، بالصعقات الكهربائية التي تكاد تُذهب بالروح، كانت أرجٌلي معلقة في الأعلى ورأسي منكوساً ، يلامس فقط طرف جبهتي الأرض، كلما أستفقتُ مع الصعقة أخضع لها من جديد،طيلة تلك الأسابيع طلباً لمعلومات الكثير منها لا تملكه النساء. ــ فقد تم الهجوم على مدينة [تاركنت] وتكثيف الإعتقالات فيها، وأبلغني احد حراس السجن، في وسط قهقهات أصحابه، أنه بإمكاني الصلاة فغداً موعد إعدام احد عشر رجلاً وإمرأة، وسوف ترون حلمكم الوهمي "أزواد" الذي لا نعلم له مكاناً في الأرض ولا في السماء. ــ بعد أسابيع من التعذيب الهمجي، تم إعادتي الى البيت برفقة رجلان من العسكر، أحدهما من الطوارق همس لي قائلاً: لا تُضيعي فرصة الفرار فالمصائب تحدث مع حلول النهار، أعادوا لي طفلتي العزيزة وكدت أخنقها من القُبل والأحضان، فقد تنفستُ الصُعداء بعد وجع فراقها، أخذتها وطرقت باب أحد بيوت أخوات النضال "ليلى ولت بلال" وما إن أطلقت عليا نظراتها حتى أغمي عليها ، لِما رأته عليا من آثار التعذيب، وبشاعة المنظر، فقد كنت مجرد جسد متهالك، نالت منه أنواع التنكيل غايتها، ذاهبتاً بحاستي سمعي وبصري إلا قليلا.
ــ لم يخلف الجيش وعده ففي الساعة العاشرة صباحاً، كانت مأساة إعدام أحد عشر رجلاً،[ونجوتُ أنا] وتحت مكبرات الصوت قيل للحشود الحاضرة، إن هولاء تم القبض عليهم ليلة الهجوم على منكا، صفق شهود الزور لبطولة جيشهم الوهمية، وبقى كل من يتصف بصفة إميشوغ رهين بيته، يقلب النظرات ذات اليمين وذات الشمال، لعل يأتي فرجاً يساعد على الفرار من هذه المدينة التى يحرسها الأشباح، الذين لا يصبرون على رؤية من يخالفهم في لون البشرة. ـــ مع حلول ظهيرة نفس يوم إعدام الضحايا، كانت رحمة الله تنزل في هيئة مطر لم يتوقف هطوله الى صبيحة اليوم الثاني...مع هدوء المدينة بسبب المطر خرجت مع أحد الكبار في السن، بعد أن ضاق به المكان ذرعاً، فبعد عبورنا وادي أنشواج، حاملة طفلتي وقارورة ماء، كنا نخشى دوريات الجيش التى تجوب الصحراء لتعتقل وتقتل الناس، كنا نحاول قطع مسافات للمُضي قدُماً للإبتعاد عن المدن والدوريات، عندما أريد الإستراحة من السير أرمي طفلتي الى الأرض وأسقط أنا كالعمود جنبها، لأن ظهري لا ينحني بسبب الصلب على الجدران والتعذيب وتجمد الدم في معظم جسمي، في الحقيقة كنت أتمنى الإلتحاق بثوار في جبل تيجريرت للمشاركة بالذي يقتضي الأمر، إلا أنني وصلت لا أقدر على تقديم الكثير، ففورا وصولي تم تحويلي الى الجزائر، لتلقي العلاج أنا وطفلتي التى فقدتها عند وصولي بعد عجز الأطباء في تدارك ما تلف من مناعة جسمها التى هلكت لمكوثها مدة بدون رضاعة.
......................................... آلاف القصص المؤلمة مثل هذه وقعت والكثير من الحقائق تم دفنها مع أصحابها تحت الرمال .